قطار الصين السريع- هل يمسح الذاكرة في سباق التطور؟

المؤلف: نجيب يماني08.27.2025
قطار الصين السريع- هل يمسح الذاكرة في سباق التطور؟

إذا كان الشاعر القدير كامل كيلاني، رحمه الله، قد أطلق العنان لدهشته العميقة تجاه قطار كانت سرعته المتواضعة لا تتجاوز (60) كيلومترًا في الساعة آنذاك، ورفع من سقف استحالة اللحاق به إلى مرتبة الجن والشياطين، حين قال أبياته الشهيرة:

هَيْهاتَ، هَيْهاتَ، لا جِنٌّ ولا سَحَرَهْ

بِقادِرِينَ عَلَى أَنْ يَلْحَقُوا أَثَرَهُ!

فماذا عساهُ أن يقول اليوم، أو ماذا سيقول غيره من أدباء وشعراء هذا الزمان، وقد أماطت الصين اللثام عن نموذج متطور لقطار فائق السرعة، ينقل الركاب بسرعة خيالية تصل إلى (600) كيلومتر في الساعة، ويعتمد على تقنية الوسادة المغناطيسية المتطورة «Maglev» فائقة التوصيل، بالإضافة إلى نظام تعليق مزدوج مبتكر، يتيح له التحليق مغناطيسيًا بمجرد تجاوز سرعة (150) كيلومترًا في الساعة، وهو ما يقلل بشكل كبير من الاحتكاك ويزيد من كفاءة التشغيل، كما أن مادته تتكون من خليط فريد من سبائك الألومنيوم وألياف الكربون المتينة، وهو ما يمنحه خفة استثنائية في الوزن وقوة وصلابة لا مثيل لهما.

فأي قواميس «الدهشة» يمكن أن تسعفنا في وصف هذه السرعة الأرضية المذهلة، التي تتجاوز سرعة الطائرات العملاقة المحلقة في السماء.

إنه فتح مبين في عالم النقل والمواصلات، يعيد إلى الأذهان أسئلة فلسفية ووجودية عميقة، تملؤها المخاوف والهواجس، وتدور جميعها حول سؤال جوهري واحد: إلى أين سيقودنا هذا الاندفاع الجنوني؟

وكم سنربح وكم سنخسر من جراء هذا السباق المحموم؟

مما لا شك فيه أن عالم الاقتصاد والمال سيجني فوائد جمة، وسيحقق مكاسب طائلة، وسيتبعه في ذلك كل مجال يعتبر فيه عامل الزمن هو المحدد الأساسي، والقيمة المحورية، ولكن في المقابل، ستتلاشى من الذاكرة حلاوة السفر، والمتعة التي يكتسبها الإنسان من خوض غمار التجربة، وما يترتب على ذلك من حكايات أدبية ممتعة، وتجارب فريدة في المتعة والجمال.

هذا ما أشار إليه الأديب الراحل الطيب صالح، في كتابه القيّم «منسي»، محاولًا التوفيق بين تحقيق غايات التطور والحفاظ على الجانب الإنساني بكل ما يحمله من قيم ومُثل عليا، حيث يقول: «لو كان الأمر بيدي، لربطت أرجاء الوطن العربي بأكمله، من طنجة المغربية إلى مسقط العمانية، ومن اللاذقية السورية إلى نيالا السودانية، بشبكة واسعة من السكك الحديدية على غرار قطارات الـT.V.G السريعة في فرنسا، وقطارات الـBullit فائقة السرعة في اليابان.

الإنسان الذي كان يمضي شهرًا أو شهرين على ظهر البعير، قاطعًا المسافة من صنعاء إلى مكة المكرمة، كيف قفز فجأة إلى هذه الوسيلة المجنونة؟

المطارات مهما بلغت من فخامة واتساع، تبدو دائمًا شيئًا مؤقتًا وعابرًا. بينما محطات السكك الحديدية لها نكهة خاصة وسحر آخاذ.

المحطات الخلوية والمشاهد المتنوعة التي تمر بها القطارات، تجعلك تشعر أنك تحركت من مكان إلى مكان آخر، وأنك تنام وتقرأ وتصادف أصنافًا مختلفة من البشر. ليس الأمر كذلك في الطائرة، حيث تغمض عينيك وتفتحهما لتجد نفسك قد انتقلت من حال إلى حال آخر دون سابق إنذار».

يحق للطيب صالح أن يقلق ويهتم، فلن يكون بمقدوره مع هذا القطار الصيني فائق السرعة، أن يتأمل بمفرده، أو أن يغذي ذاكرته من المكان، أو أن يشحذ خياله من تأمل وجوه الناس، أو أن يقيم علاقات إنسانية معهم، أو أن يقرأ كتابًا، أو أن يمارس أي فعل إنساني نبيل، شأنه شأن من يستقل الطائرة. وسيكون حاله كحال جميع المبدعين الذين يعشقون التأني والتفكير العميق، فالسرعة هي النقيض المطلق للتأمل والتروي، وهي تتعارض مع وظيفة «الذاكرة»، التي تعتبر أساس الإبداع، ومهوى أفئدة الحنين والشجن والمشاعر المتقلبة، هكذا كان الأمر منذ القدم وإلى يومنا هذا، منذ أن مهد له الشاعر الجاهلي امرؤ القيس، في مطلع معلقته الشهيرة:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْملِ

فوطّأ بذلك لغيره دروب الحنين، وعبد لهم الطريق إلى مسالك الشجن، فمن التوقف الطويل على الأطلال البالية، إلى إبطاء السير في الفيافي والقفار، ومن التأني والتمهل إلى السير المتباطئ، وحتى من كان على عجلة من أمره، ومضطرًا إلى الإسراع، لم يفته فضل الوقوف بأطلال الحبيبة ورسومها الباهتة، وذلك شأن الحكيم المتنبي، حين وصف حال قلقه العميق قائلًا:

بَليتُ بِلى الأَطلالِ إِن لَم أَقِف بِها

وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التَربِ خاتَمُه

كَئيبًا تَوَقّاني العَواذِلُ في الهَوى

كَما يَتَوَقّى رَيِّضَ الخَيلِ حازِمُه

قِفي تَغرَمِ الأَولى مِنَ اللَحظِ مُهجَتي

بِثانِيَةٍ وَالمُتلِفُ الشَيءَ غارِمُه

رفقًا بنا يا «أبا الطيب» فلم يعد في الوقت متسع للتوقف، فقد استولت السرعة على زمام أمورنا، فلا تروٍ ولا تأمل ولا تمهل، وكأننا نركض خلف وهم، وكأننا نتسابق في «اللا شيء»، وكأننا نلاحق سرابًا، ونجري وراء ما لا يدرك، وكل يوم تتضاءل ذاكرتنا، وتتلاشى من خاطرنا الذكريات، ونعيش حياتنا بفقه الـ«Take away»، من طعامنا وشرابنا إلى ملابسنا وأثاث منزلنا، وجميع مستهلكاتنا اليومية،

فقط نبحث عن كل ما هو جديد لغايات عبثية.

فما تكاد تشرع في حديث، حتى يفاجئك ما هو أحدث منه في عالم التكنولوجيا المتسارع، فترمي بما في يدك وتهرع إليه مسرعًا..

ولا تكاد تركب وسيلة نقل سريعة، حتى تسارع إلى امتطاء ما هو أسرع منها. وهكذا في سباق دائم ومحموم.

ولا شيء يبدو أنه سيوقف هذا التسارع الجنوني المتفلت..

والصين تسير بنا مع عالمها المذهل، نحو قطار يمحو ذاكرتك، ويبلغك وجهتك قبل أن تنهض من مقعدك..

فإلى أين سيقودنا هذا الاندفاع المتسارع الذي لا يتوقف؟!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة